رواية قبل نهاية الطريق (الجزء الحادي والعشرون)

رواية قبل نهاية الطريق (الجزء الحادي والعشرون)

مر يوماً بعد يوم ولم يأتي حسام مثلما إعتادت أو حتى يمر مروراً ، لقد اختفى فجأة وتفتقده بشدة.
لقد كانت تتوقع الفراق والبعد هكذا كُتب عليها طوال حياتها ، فارقتها أمها ثم عمها ومن قبلهما أبيها وجدودها ، وعندما بدأت حياتها فارقها الحب والسعادة وكاد يفارقها أولادها وهي الآن تفارقها صحتها بل عمرها ، وعندما بدأت تشعر بشيءٍ من حلو الحياة هاهي تفتقده ، بئس الدنيا الغادرة ! وما العجب فهي دنيا ؟!!

لقد أصابها الجزع أتتحمل أوجاعها وآلام المسمى بالعلاج ولم تجد أي نتيجة حتى الآن أم وجع فراق آخر أمل في نهاية طريقها.
صارت تبكي وتنتحب بإستمرار وبدأت تترك الطعام إطلاقاً فهو من كان يطعمها ويمازحها ويحايلها لتقوى على بلع بضع لقيماتٍ بالكاد.
كان حسام من يومها وهو مبتعدٌ تماماً حتى إنه يمر على مرضاه لتفقدهم إلا هي ، ويبقى ما تبقى من يومه شاردٌ في الماضي يمر من أمامه شريط حياته وذكرياته.

تلك الفتاة صديقة أخته الفتاة الرقيقة المهذبة ، التي هي وأخته متلازمتان دائماً أيٍ منهما تكون عند الأخرى ، مرت أعوام وهي تكبر وتترعرع أمام عينيه ،كان يتصرف بمحض الأخ الأكبر المسئول عن أختيه الصغيرتين ، فكثيراً ما عمل كسائق لهما من هذا الدرس إلي ذاك الدرس أو يذهب ليأتي بهما من مكان ما ويوصلهما للبيت ، لقد اختار لها إسم لوليتا ليناديها به ولم يناديها به غيره إلا منى نادراً.
تذكر كيف إهتم بها كثيراً واستمع لحكاياتها التافهة وضحك عليها ، كم مرة إشتد حنقه وغضبه عندما يرى من يضايقها ؟!

كم مرة عنّفها عندما يجدها تمزح مع أحد زملاءها الشباب ؟!!!
أتذكر يوم ذهبت إحضارها هي ومنى من إحدى الدروس وكانتا تقفان بين زميلاتها يلتففن حول المدرس ورآه يتحدث إليها ويضع بيده على كتفه وهي تحدثه بحسن نية دون أن يرى تلك النظرة الخبيثة التي قرأها منه فما كان له إلا أن انقض عليه دون أي كلمة ولكّمه بقوة ومنعها هي وأخته من الذهاب لذلك المعلم الدنيء بعد ذلك.

ألن تكفيك كل تلك الذكريات للتأكد أنك كنت تحبها من صغرها ؟!!! كيف لم تترجم كل تلك الشواهد لتعرف معناها ؟!!
للأسف لم يخطر ببالك يوماً دوافع أفعالك تلك ، لم يخطر ببالك يوماً أنك قد أحببتها وتغلغل في عروقك حبها.
لكن تشاء الأقدار أن يرى فتاة أخرى ذات يوم في أحد الأفراح ثم يتصادف بها في عدة أماكن بعد ذلك ، في المشفى مع أحد أقاربها ،مرة في إحدى المحلات ، مرة في مطعم ، وترجم كل تلك الصدف لموعد ولقاءات ثم خطوبة ثم زواج.

وما لبث أن عادا من شهر العسل وبدأت ترغمه ليجيء معها لزيارة أهلها وحضور حفلات دائماً والسماح ببعض التجاوزات وإن كانت قد رأت في ذلك تحرراً ومواكبةً للعصر الحديث.
حتى احتد الشجار بينهما ذات يوم وانطلق من أمامها غاضباً وأسرع بسيارته وفجأة… إرتطام… صراخ… تحطّم …..ظلام.

لم يتذكر كم مكث في ظلامه ؟
كم قضى في غيبوبته يعاني من ذلك الحادث المروّع؟
كان هناك خيالات لأحاديث ولأشخاص لا يذكر أيهما الحقيقة وأيهما من دنيا الأحلام ، وكلما إستعاد وعيه للحظات يشعر بآلامٍ مبرحة تفوق أي تحمّل ويسمع صريخٌ وعويل أو أحاديث بين الأطباء تتحدث عن صعوبة الحالة الممتلئة بكسورٍ وجروحٍ وصعوبة السيطرة على النزيف وكلامٌ طبيّ كثير دون أن يدرون أنه زميل.

يتذكر كيف تركته من بادئ الأمر ؟!!
كيف تململت وتقاعست عن مكوثها بجانب زوجها ؟!!
فحفلاتها ونشاطاتها مع عائلتها كانت أهم ، لن تتحمل الإستمرار في تمريضه ورعايته ، رعاية من لم يطلب يوماً المساعدة من أي فرد، ولم لا فقد كان أحد أعضاء فريق الجوالة المتميزين وقد إعتاد الإعتماد على نفسه في كل شيء وفعل كل شيء بنفسه لنفسه.

ترى الآن وهو لا يقوى على الحركة وهو يحتاج لمعاونة في أدق تفاصيل حياته ، لكن كان رد فعلها هو طلب الطلاق فليس من المعقول إهدار شبابها بين المشافي وفي تمريضه خاصةً بعد أن اتضح أنه قد أصبح غير قادر على الإنجاب ، وإن كان متأكداً أن ذلك آخر سبب يعنيها بل كان مجرد سبب ظاهري ليتعاطف معها الآخرون لكنه لم ينتظر ولبّى طلبها بمجرد طلبه.

ومرت شهوراً بين الجراحات والعلاج الطبيعي ومرت أعوام وقد درس وذهب لعدة دول وكبر إسمه وذاع سيطه ورمى بعيداً فكرة دخول أي إمرأة لحياته تلك وصارت حياته بين الدراسة والعمل والمرضى.
حتي تقابل مع ليلى صديقة الطفولة من جديد دون أن يعرف من تكون ، هل تحن للقديم أم ماذا ؟ فكلما فكّر وقف عند نفس النقطة وذلك الإعتراف الذي يخشى أن يعترف به بينه وبين نفسه أنه يحبها بل وبجنون.
كان ينظر لصورة شخصية رائعة لها على موقع التواصل الإجتماعي.

لم يكن حسام وقتها جالساً وحده في مكتبه بل كان على الجانب الآخر يجلس إياد ويعبث بهاتفه ويشرد كثيراً .
فدخلت منى عليهما لترى كلاً منهما شاردٌ في صورة معشوقته ، إتجهت نحو حسام لتجده شارداً جداً في صورة ليلى فوضعت يدها فوق الصورة لتيقظه مما هو فيه.
حسام بفجأة :مرحباً منى !
منى:إذن إعترف بحبك لها.
حسام:ماذا ؟!!!

منى:لم تعد تستطيع أن تنكر أو تخفي حقيقة مشاعرك الملتهبة تلك ، إرجع وإقترب منها من جديد فهي بحاجةٍ إليك ، ليلى قلبها طيب وما قالته ذلك اليوم لم يكن سوى ذلة لسان.
حسام :منى لا شيء.
منى:إذن فاذهب لها فوراً !
ثم تنظر نحو ابنها الذي لم يختلف حاله عن حال خاله ثم تقول بتنهيدة ناظرةٌ إليه :فولة وإنقسمت إلى نصفين أنت وخالك.

فانتبه إياد فجأة وقال :مرحباً أمي !
منى: من الواضح أن الأذكياء في الدراسة هم أشد غباءً في العلاقات.
إياد :ماذا يجري يا أمي ؟!!
منى:هل إنتهت مريم بالنسبة إليك ؟!!
إياد :مريييييم !! وما شأني بها ؟!!
منى :والله ! لقد كنت متيّم في أشد حالة فلماذا إبتعدت هكذا ؟!! وإياك قول مستقبلها ودراستها ومثل ذلك الكلام الحُمُّصي !

إياد:أمي رجاءً ! أنا لا أقوي على الكلام.
منى:ماذا بك إما أن تخر متيّماً إما أن تبتعد تماماً ؟!! اسمع بنيّ ! مريم قد إمتحنت ونجحت وحصلت على مجموعٍ عالٍ ، وإن شاء الله سيؤهلها ذلك المجموع للإلتحاق بكلية الطب كما تحلم ،إذن قد إنتهت الحجج ، واعلم جيداً أن مريم قوية يعني إن ظللت بعيداً هكذا سترميك خلفها ولن تنظر إليك تماماً وكأن شيئاً لم يحدث ، فدائماً الأمهات المنكوبات تنجبن فتيات قويات، ستخسرها وتجد نفسك تعيش مع أخرى مضطر وتظلمها معك.
حسام :إمسك العصاة من منتصفها يا إياد ! فخير الأمور الوسط.

منى: ومن الذي يتحدث ؟!! إنصح نفسك أولاً !
وهنا صوت طرقٍ علي الباب ثم دخلت الممرضة تصيح في زعر :النجدة يا دكتور ، مدام ليلى ، وجداناها ملقاة على الأرض وفاقدة لوعيها ولا تستجيب لأي شيء !!!
فانتفص من مكانه وأسرع ركضاً وخلفه إياد ومنى نحو غرفتها.
كانت ليلى بعد إنتظارها الطويل له وبكاءها كثيراً قد قررت مواجهته والذهاب إلى مكتبه والتحدث إليه لكنها بمجرد أن وقفت سقطت على الأرض مغشياً عليها.

تحرّك حسام وإياد نحوها يحاولان إسعافها بينما منى تقف جانباً تنظر لهما وتبكي في صمت ، ومع كل تلك المحاولات لم تستعيد وعيها.

إقترب حسام ومسك يدها ويهزها ويهمس إليها عن مقربة: ليلى…لوليتا.. حبيبتي…. لقد أخطأت… لم أعلم أن إبتعادي عنك يفعل بك هكذا…أقسم لك أني أحبك ولم أحب غيرك طوال حياتي….لن أبتعد عنك مجدداً …هيا انهضي وحدثيني…. أنت تسمعيني أعلم ذلك… قاومي الموت لوليتا….. لن أتركك حبيبتي….. قومي واحكي واضحكي وامزحي…. أحب سماع قصصك وضحكاتك…. حبيبتي أقسم أني أشتاق إليكي لا تتركيني… هيا انهضي…. ليلى… ليلى…. لوليتا.

لكن لا إستجابة ومهما كرر محاولاته كل يوم لا تستجيب.
ترى هل وصلت ليلى لنهاية الطريق أم لازال هناك استراحة قبل نهاية الطريق ؟!!!!
وللحديث بقية،

https://www.barabic.com/real-stories/13009

تعليقات (1)

إغلاق