قصة الثلاجة العجيبة

قصة الثلاجة العجيبة

في قاعة المحكمة يردد القاضي للمرة الأخيرة: – هذه هي الفرصة الأخيرة التي تتيحها لكِ يا (مديحة)، أنتِ متهمة بقتل سبعة عشر رجلا، شهادات الشهود تجمع على استدراجك لهم لمنزلك ثم اختفائهم، ملفات شركة الصيانة تسجيل خروج المندوب إليك في ذات يوم اختفائه وعدم عودته، شهادات البواب، الجيران،

وحتى أبنائك تؤكد صعود رجال معك إلى المنزل وعدم خروجهم مرة أخرى، أؤجل القضية مرة بعد مرة وأنتِ تلتزمين الصمت، هكذا لن يسعني إلا أن أحكم بالعقوبة المشددة وأنتِ تعرفينها يصيح الدفاع: – طالما ليس هناك جثث يا سيادة القاضي فليس هناك قتل.

يقاطعه القاضي: – حضرة محامي الدفاع سمعناك في المرافعة ولم تفد بجديد، وليس ذنبك هي أصلا لم تساعدك.. لم تقل كلمة أو تنفي تهمة، ولهذا وللمرة الأخيرة أقول: تحدثي يا (مديحة) لنساعدك ببطء، تقف (مديحة) متعلقة بأسوار القفص، ترتفع أنظار الحضور إليها بهيبة، تلقي نظرة طويلة على أبنائها ثم تقول: – أنا لم أقتلهم يا سيادة القاضي، لم أقتلهم.. هي قتلتهم.

يصارعها القاضي: – من هي؟ تزفر في يأس بينما تقول: – الثلاجة. يرتفع الضجيج بالقاعة ما بين ساخر وضاحك ومشفق، لا تنجح ضربات القاضي المتتالية في إسكاته، تتابع بصوت يعلو على صوت الضجيج: – سأحكي من البداية، أنا لا أؤمن أني اقترفت خطأ..

ليس خطئي كسيدة بيت مدبرة أن ابتعت ثلاجة من معرض أجهزة مستعملة بثمن زهيد دون أن أسأل عن تاريخها، هل منكم يا سادة من يشك أن ثلاجته تاريخ أسود مع السحرة وأكلة لحوم البشر قبل أن يحصل عليها؟ بدأ كل شيء باختفاء الطعام من الثلاجة، في البداية لم ألق بالا غير أن شككت بابني الأكبر الذي لا يستطيع أن يسيطر على شهيته للطعام، ولكم أنكر ولكنني ظللت ينعته بأنه شره، فيما بعد صارت ذائقة الثلاجة أكثر تمييزًا.

هي فقط تنتقي اللحوم تختفي، أية كمية من اللحوم يمكنها ابتلاعها بمجرد أن أغلق الباب، أصابني الذعر، ما هذا الجهاز المريب الذي يقبع بمنزلي؟ حاولت الاتصال بالبائع لكنه يتهرب مني، فاكتفيت بأن امتنعت عن جلب اللحوم، ومن أين كنت يجلبها على أية حال بعد كل تلك الخسائر التي تكبدتها! لكن هذا كان كفيلا بفتح باب الويل عليّ وأطفالي… ذات يوم استيقظت من النوم على صوت غريب..

صوت هدير ربما، صوت أنين، صوت ارتجاج المعدن بالجدران والأرضيات.. إن الطفل جائع، الطفل يصرخ و يدبدب من أجل الطعام، جزء من قلبي لم يستطع أن يلومها، فإنني أم قبل كل شيء. فزع أطفالي: – ماذا يحدث يا ماما.. هل هذا زلزال؟ – لا شيء، لا شيء عودوا للنوم. دثرته بالأغطية ووضع الوسادات على رؤوسهم، طيبتهم ليناموا، ولكن هل أطلب الجيران أيضا..

طرقات على الباب، شكاوى من الجيران، لعنات سباب تهديدات بإبلاغ البوليس، وضعت عباءة فوقي وخرجت من بينهم: – حاضر حاضر ركضت إلى الجزار وحصلت بآخر نقودي على لحم، هكذا حصلت على السلام لباقي الليل. في الليلة التالية عاد الهدير من جديد، ولوهلة خطرت لي فكرة ألمعت عيوني، ببساطة ذهبت إلى الثلاجة وانتزعت القابس..

ترقبت لحظة في انتظار رد فعل ما، ولكنها لم تفعل شيء، ابتسمت من سذاجتي، كيف لم يخطر لي هذا سابقًا! وكدت أخطو نحو غرفتي حين انقطعت الكهرباء عن المنزل بأكمله، شيء واحد لم يتأثر بانقطاع الكهرباء، شيء كان يزأر باستمرار.. شعرت برطوبة تحت قدمي..

التفت إلى الثلاجة التي ترتج بعنف، رفعت يدي أفتح بابها ولكن مع ذاك السائل أسفل قدمي لم أدري إلا بجسدي يُقذَف إلى بعيد تختلج أوصاله يصطدم بالحائط ثم يسقط يمارس الارتجاف في المكان. في تلك اللحظة عادت الكهرباء، أضاء النور المطبخ لأرى السائل الأحمر الذي تسلل من الثلاجة..

ما كان هذا؟ أرى ابني الأصغر يقترب من الثلاجة القابعة في سكون، يمر بي كألم يرني، يمسك المقبض ويهمس: – أين الكيك الخاص بي؟ أفتح فمي لأناديه، أمد ذراعي لأحميه، لا صوت لدي، لا طاقة، ينحني ويدس رأسه الصغير داخل الثلاجة مرددًا بدلال طفولي: – أين الكيك الخاص بي…. أين الكيك الخاص بي؟ أرقب باب الثلاجة يتحرك ببطء نحو ابني، أردد بلا صوت: – حبيبي، اسمعني، ابتعد.. أسمع ضحكاتها الخفية.. يتحرك الباب ببطء، يتحرك بسرعة، يطبق دفعة واحدة على عنق ابني..

يصرخ، أصرخ، أهدد، أتوعد، أستجدي، أبكي: – دعيه وسأفعل كل ما تريدي، دعيه وسأجلب لك اللحم. يرتخي الباب عن ابني: فاقدًا الوعي لكن حي.. وجدت لدي الطاقة لأتحرك فركضت إليه، ونظرت إلى الثلاجة متحدثة: – سآخذه إلى الطبيب أولاً، بعدها سأجلب لك اللحم، هل توافقين؟ زمجرت الثلاجة في قوة.. رددت: – حسنًا حسنًا لا بأس… سأجلب اللحم أولاً.

عادت تزمجر بقوة أشد.. صرخت باكيةً: – إذًا ماذا تريدين؟ سكنت الثلاجة، وأضاءت ورقة ملصقة بها، ورقة تشير إلى شركة الصيانة مع رقم هاتف متلألئ.. تزفر (مديحة)، تحني رأسها، وتقول: – لم أكن أتخيل.. لم أكن أتصور أن الثلاجة ستقتل.. ظننتها بحاجة للصيانة لا أكثر..

سأل القاضي: – وكيف قتلته أفاق ممثل الإدعاء: – وهل تصدق سيادتك هذه القصة لتسأل كيف قتلته؟ – لها حق الكلام وليس لك أن تقاطعها. قالت: – قتلته بنفس الطريقة التي اتبعتها مع ابني.. اتصلت بالشركة وأرسلت لي المندوب بالرغم من انتهاء مدة الصيانة لأني وعدتهم أن أدفع بسخاء، ابتكرت له مجموعة من الأعطال غير الأعطال الحقيقة، هل سأقول له: تعالى اصلح الثلاجة لأنها تشتهي لحمك؟ وبمجرد أن انحنى يتفحصها حتى انغلقت عليه، لا أدري كيف..

الرأس وبعده انسحب الجسد قطعة قطعة ثم انغلق الباب، حاولت فتحه لكنه كان محكما حقا، وحين انفتح بالأخير كان كل شيء طبيعي، لا شيء غير طبيعي غير أن الجيلي اختفى، وهذه اعترف بها ابني الأكبر لاحقًا. قاطعها القاضي: – ادخلي إلى صلب الموضوع يا (مديحة) لا مجال للدعابات. تضحك في أسى: – اعذرني يا سيادة القاضي إن ما أمر به ليس بقليل.

– ولماذا لم تتخلصي منها أو تعيديها للمتجر الذي ابتعتها منه؟ – حاولت لكن تطور الأحداث كان أسرع من قدرتي على الملاحقة، وحين وصل الأمر إلى القتل وتهديد حياة أبنائي سحبت ابني الأكبر وذهبت إلى متجر الأجهزة المستعملة، أخبرت الطفل أن يبقى بالخارج وتسللت إلى الداخل، وما إن رأيته حتى أمسكت بتلابيبه: “يا نصاب يا لص تبيعني ثلاجة مسحورة تبتلع الطعام والبني آدمين،

وقد أزمعت لئن لم تأخذ ثلاجتك وتعيدني نقودي لأقطعن عنقك” “اهدئي يا مدام أية بني آدمين تبتلعهم” “أنا أخبرك أنها قتلت بني آدمين” “أنا لم أكن أعرف حكاية القتل هذه” “إذا كنت تعرف ما دون ذلك؟” “أنا كل ما أعرفه أنها كانت مملوكة لساحر أسود وآكل لحوم بشر كان يستخدم الثلاجة لتخزين لحوم ضحاياه وأظن أنه كان يقدم قرابين ما في داخل الثلاجة لجهات غير معلومة علها تفتح له معبرًا إلى مكان ما.. لا أدري..

شيء كهذا! وقد مات بطريقة مريعة، عله خالف اتفاقاتهم أو شيء، وحين قُتل ذاك الرجل بيعت الثلاجة بالمزاد وراهنت عليها كأية ثلاجة أخرى، ما كان أدراني بأنه سيحدث كل هذا؟” تقاطعه بحدة: “ولماذا لم تخبرني من البداية؟” “ليس كل شيء يُقال يا مدام” “وما ذنبي أنا في كل هذا، أنت يجب أن تخلصني منها بأي شكل، خذها بلا أموال لا أريد منك شيئا فقط خلصني منها.

” “لا أستطيع يا مدام لا أستطيع.” “ولم؟” “ثمة أشياء لا تنتهي ملكيتها إلا في حالة واحدة.” يصمت لحظة: “الوفاة!” سأل القاضي: – إذًا رفض مساعدتك؟ – نعم. حاولت بعدها إخراجها من المنزل بمساعدة آخرين ولكنها كانت تزن أطنانًا في كل مرة، ثم تصير أكثر عدائية فتسقي أطفالي لبنًا مضرجًا بالدماء، وتطعمهم ثريدًا مقددًا بالدود، حتى أنها قدمت لهم السم..

ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ أحضرت لها ما تريد. – أحضرتِ لها رجالاً؟ – نعم، ليس لأنني امرأة رخيصة كما تصوّر تحريّاتكم، ولكن لأنني أم مخلصة، أحضر الرجل من الشارع، أصعد به إلى المنزل، أدفعه بعيدًا بدلال: “لا، ليس هكذا، احضر لنا مشروبًا بالأول” ثم تنتهي علاقتي به على باب الثلاجة.

انتهت (مديحة) مما لديها، وجلست بهدوء في مكانها، في حين رفع القاضي القضية للمداولة. ~ في غرفة الإعدام، تبدو (مديحة) متماسكة في ثوبها الأحمر، يتقدم القاضي من (مديحة) ويقول بحنان أبوي متحاشيًا نظرتها: – نفسك في إيه يا (مديحة)؟ تقول بنبرة استسلام دون أن تفكر: – قطعة شيكولاتة..

تكرر وقد أضاءت فكرة بعقلها: – قطعة شيكولاتة في باب الثلاجة بمنزلي، هل يمكنك أن تحضرها لي؟ يلتقط القاضي الخيط، تلتمع عيونه بالإصرار: – وأنا قبلت التحدي.. يأمر بتأجيل التنفيذ حتى يعود، يتقدم خطوات للأمام لكنه يلتفت ويقول بحدة: – لا تظني أنني أخالف ضميري للحظة أو أغامر بحياة إنسان في أحكام الإعدام..

لو لم أكن متيقنًا مائة بالمائة أنك قاتلة ما حكمت عليكِ بالقصاص. ثم يلتفت ويغادر كالسهم. نعم، كان عصبيًا، كل الذين شاهدوه أجمعوا أنه كان عصبيًا على غير عادته. يقولون ربما ثار لشرفه المهني، ولكن مع تأخره في العودة بدأوا يظنون أنه إنما انفعل لعنقه الخاص

تعليقات (0)

إغلاق